فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



على أن هذه السورة لم تخْلُ من إشارة إلى التحدّي بإعجاز القرآن لقوله تعالى: {أوَ لَمْ يَكْفِهِم أنّا أنزلنا إليك الكتاب يُتْلى عليهم} [العنكبوت: 51].
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)}.
الاستفهام في {أحسب} مستعمل في الإنكار، أي إنكار حسبان ذلك.
وحسب بمعنى ظن، وتقدم في قوله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} في سورة [البقرة: 214].
والمراد بالناس كل الذين آمنوا، فالقول كناية عن حصول المقول في نفس الأمر، أي أحَسِبَ الناس وقوع تركهم لأن يقولوا آمنا، فقوله: {أن يتركوا} مفعول أول ل {حسب}.
وقوله: {أن يقولوا ءامنا} شِبه جملة في محل المفعول الثاني وهو مجرور بلام جر محذوف مع {أن} حذفًا مطردًا، والتقدير: أَحَسِبَ الناس تركهم غير مفتونين لأجل قولهم: آمنا، فإن أفعال الظن والعلم لا تتعدى إلى الذوات وإنما تتعدى إلى الأحوال والمعاني وكان حقها أن يكون مفعولها واحدًا دالًا على حالة، ولكن جرى استعمال الكلام على أن يجعلوا لها اسم ذات مفعولًا، ثم يجعلوا ما يدل على حالة للذات مفعولًا ثانيًا.
ولذلك قالوا: إن مفعولي أفعال القلوب أي العلم ونحوه أصلهما مبتدأ وخبر.
والترك: عدم تعهد الشيء بعد الاتصال به.
والترك هنا مستعمل في حقيقته لأن الذين آمنوا قد كانوا مخالطين للمشركين ومن زمرتهم، فلما آمنوا اختصوا بأنفسهم وخالفوا أحوال قومهم وذلك مظنة أن يتركهم المشركون وشأنهم، فلما أبى المشركون إلا منازعتهم طمعًا في إقلاعهم عن الإيمان وقع ذلك منهم موقع المباغتة والتعجب، وتقدم الترك المجازي في قوله تعالى: {وتَرَكَهُم في ظلمات لا يبصرون} أوائل [البقرة: 17].
و{أن يقولوا} في موضع نصب على نزع الخافض الذي هو لام التعليل.
والتقدير: لأجل أن يقولوا آمنا.
وجملة {وهم لا يفتنون} حال، أي لا يحسبوا أنهم سالمون من الفتنة إذا آمنوا.
والفتن والفتون: فساد حال الناس بالعدوان والأذى في الأنفس والأموال والأهلين.
والاسم: الفتنة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {إنما نحن فتنة فلا تكفر} في سورة [البقرة: 102].
وبناء فعلي {يُتركوا} {ويُفتنون} للمجهول للاستغناء عن ذكر الفاعل لظهور أن الفاعل قوم ليسوا بمؤمنين، أي أن يتركوا خالين عن فتون الكافرين إياهم لما هو معروف من الأحداث قبيل نزولها، ولما هو معلوم من دأب الناس أن يناصبوا العداء من خالفهم في معتقداتهم ومن ترفع عن رذائلهم.
والمعنى: أحَسِبَ الذين قالوا آمنا أن يتركهم أعداء الدين دون أن يفتنوهم.
ومن فسروا الفتون هنا بما شمل التكاليف الشاقة مثل الهجرة والجهاد قد ابتعدوا عن مهيع المعنى واللفظ وناكدوا ما تفرع عنه من قوله: {فليعلمَنّ الله الذين صدقوا وليعلَمَنّ الكاذبين} [العنكبوت: 3].
وإنما لم نقدر فاعل {يتركوا} و{يفتنون} أنه الله تعالى تحاشا مع التشابه مع وجود مندوحة عنه.
وهذه الفتنة مراتب أعظمها التعذيب كما فعل ببلال، وعمار بن ياسر وأبويه.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)}.
انتقال إلى التنويه بالفتون لأجل الإيمان بالله بأنه سنة الله في سالف أهل الإيمان وتأكيد الجملة بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المؤمنين حين استعظموا ما نالهم من الفتنة من المشركين واستبطأوا النصر على الظالمين، وذهولهم عن سنة الكون في تلك الحالة منزلة من ينكر أن من يخالف الدهماء في ضلالهم ويتجافى عن أخلاقهم ورذالتهم لابد أن تلحقه منهم فتنة.
ولما كان هذا السنن من آثار ما طبع الله عليه عقول غالب البشر وتفكيرهم غير المعصوم بالدلائل وكان حاصلًا في الأمم السالفة كلها أسند فتون تلك الأمم إلى الله تعالى إسنادًا مجازيًا لأنه خالق أسبابه كما خلق أسباب العصمة منه لمن كان أهلًا للعصمة من مثله، وفي هذا الإسناد إيماء إلى أن الذي خلق أسباب تلك الفتن قريبها وبعيدها قادر على صرفها بأسباب تضادها.
وإلى هذا يشير دعاء موسى عليه السلام المحكي في سورة [يونس: 88] {وقال موسى ربنا إنك ءاتيت فرعون وملأه زينة وأموالًا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدُد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} فسأل الله أن يخلق ضد الأسباب التي غرّت فرعون وملأه وغشيت على قلبه بالضلال.
والمقصود التذكير بما لحق صالحي الأمم السالفة من الأذى والاضطهاد كما لقي صالحو النصارى من مشركي الرومان في عصور المسيحية الأولى، وقد قص القرآن بعض ذلك في سورة البروج.
وحكمها سار في حال كل من يتمسك بالحق بين قوم يستخفون به من المسلمين لأن نكران الحق أنواع كثيرة.
والواو الداخلة على جملة {ولقد فتنا الذين من قبلهم} يجوز أن تكون عاطفة على جملة {أحَسِبَ الناس} [العنكبوت: 2] ، ويجوز كونها عاطفة على جملة {وهم لا يفتنون} [العنكبوت: 2] فتكون بمعنى الحال، أي والحال قد فتنا الذين من قبلهم، وعلى كلا التقديرين فالجملة معترضة بين ما قبلها وما تفرّع عنه من قوله: {فليعلمنّ الله الذين صدقوا}.
فلك أن تسمي تلك الواو اعتراضية.
وإسناد فعل {فتنا} إلى الله تعالى لقصد تشريف هذه الفتون بأنه جرى على سنة الله في الأمم.
فالفاء في قوله: {فليعلمن الله الذين صدقوا} تفريع على جملة {وهم لا يفتنون} [العنكبوت: 2] ، أي يفتنون فيعلم الله الذين صدقوا منهم والكاذبين.
والمفرع هو علم الله الحاصل في المستقبل كما يقتضيه توكيد فعل العلم بنون التوكيد التي لا يؤكد بها المضارع إلا مستقبلًا.
وهو تعلق بالمعلوم شبيه بالتعلق التنجيزي لصفتي الإرادة والقدرة وإن لم يسموه بهذا الاسم.
والمراد بالصدق هنا ثبات الشيء ورسوخه، وبالكذب ارتفاعه وتزلزله؛ وذلك أن المؤمنين حين قالوا {آمنا} [العنكبوت: 2] لم يكن منهم من هو كاذب في إخباره عن نفسه بأنه اعتقد عقيدة الإيمان واتبع رسوله، فإذا لحقهم الفتون من أجل دخولهم في دين الإسلام فمن لم يعبأ بذلك ولم يترك اتباع الرسول فقد تبين رسوخ إيمانه ورباطة عزمه فكان إيمانه حقًا وصدقًا، ومن ترك الإيمان خوف الفتنة فقد استبان من حاله عدم رسوخ إيمانه وتزلزله، وهذا كقول النابغة:
أولئك قوم بأسهم غيرُ كاذب.
وقول الأعشى في ضده يصف راحلته:
جُمَالِيّة تَغْتَلي بالرِّدا ** ففِ إذا كذب الآثِمَاتُ الهجيرا

وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {أن لهم قدم صدق عند ربهم} في أول سورة [يونس: 2].
ولما كان علم الله بمن يكون إيمانه صادقًا عند الفتون ومن يكون إيمانه كاذبًا بهذين المعنيين متقررًا في الأزل من قبل أن يحصل الفتون والصدقُ والكذب تعين تأويل فعل {فليعلمن} بمعنى: فليعلمن بكذب إيمانهم بهذا المعنى، فهو من تعلق العلم بحصول أمر كان في علم الله أنه سيكون وهو شبيه بتعلق الإرادة المعبر عنه بالتعلق التنجيزي ولا مانع من إثبات تعلقين لعلم الله تعالى: أحدهما قديم، والآخر تنجيزي حادث.
ولا يفضي ذلك إلى اتصاف الله تعالى بوصف حادث لأن تعلق الصفة تحقق مقتضاها في الخارج لا في ذات موصوفها، وتقدم عند قوله تعالى: {إلا لِنَعْلَم مَن يتَّبع الرسول} في سورة [البقرة: 143] ، وقوله: {وليعلم الله الذين ءامنوا ويتّخذ منكم شهداء} في [آل عمران: 140].
ولك أن تجعل العلم هنا مكنى به عن وعد الصادقين ووعيد الكاذبين لأن العلم سبب للجزاء بما يقتضيه فكانت الكناية مقصودة وهو المعنى الأهم.
وقد عدل في قوله: {فليعلمن الله} عن طريق التكلم إلى طريق الغيبة بإظهار اسم الجلالة على أسلوب الالتفات لما في هذا الإظهار من الجلالة ليعلم أن الجزاء على ذلك جزاء مالك المُلك.
وتعريف المتصفين بصدق الإيمان بالموصول والصلة الماضوية لإفادة أنهم اشتهروا بحدثان صدق الإيمان وأن صدقهم مُحقق.
وأما تعريف المتصفين بالكذب بطريق التعريف باللام وبصيغة اسم الفاعل فلإفادة أنهم عُهدوا بهذا الوصف وتميزوا به مع ما في ذلك من التفنن والرعاية على الفاصلة.
روى الطبري عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: نزلت هذه الآية: {الم أَحَسِبَ الناس أن يتركوا} إلى قوله: {وليعلمن الكاذبينا} [لعنكبوت: 13] في عمار بن ياسر إذ كان يُعذَّب في الله، أي وأمثاله عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام ممن كانوا يعذبون بمكة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهم الله بالنجاة لهم وللمستضعفين من المؤمنين.
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)}.
أعقب تثبيت المؤمنين على ما يصيبهم من فتون المشركين وما في ذلك من الوعد والوعيد بزجر المشركين على ما يعملونه من السيئات في جانب المؤمنين وأعظم تلك السيئات فتونهم المسلمين.
فالمراد بالذين يعملون السيئات الفاتنون للمؤمنين.
وهذا ووعيدهم بأن الله لا يفلتهم.
وفي هذا أيضًا زيادة تثبيت للمؤمنين بأن الله ينصرهم من أعدائهم.
ف {أم} للإضراب الانتقالي ويقدر بعدها استفهام إنكاري.
و{السيئات} الأعمال السوء.
وهي التنكيل والتعذيب وفتون المسلمين.
والسبق: مستعمل مجازًا في النجاة والانفلات كقول مُرة بن عدَّاء الفقعسي:
كأنك لم تُسْبَق من الدهر مرة ** إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب

وقوله تعالى: {وما نحن بمسبوقين على أن نبدّل أمثالكم} [الواقعة: 60، 61] وقوله: {فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكُلًا أخذنا بذنبه} [العنكبوت: 39، 40].
وقد تقدم عند قوله تعالى: {ولا يحسبَنّ الذين كفروا سبقوا} في سورة [الأنفال: 59].
والمعنى: أم حسبوا أن قد شفوا غيظهم من المؤمنين، فهم بذلك غلبوا أولياءنا فغلبونا.
وجملة {ساء ما يحكمون} ذمّ لحسبانهم ذلك وإبطال له.
فهي مقررة لمعنى الإنكار في جملة {أم حَسِبَ الذين يعملون السيئات} فلها حكم التوكيد فلذلك فصلت.
وهذه الجملة تقتضي أن يكون هذا الحسبان واقعًا منهم.
ومعنى وقوعه: أنهم اعتقدوا ما يساوي هذا الحسبان لأنهم حين لم يستطع المؤمنون رد فتنتهم قد اغتروا بأنهم غلبوا المؤمنين، وإذ قد كان المؤمنون يدعون إلى الله دون الأصنام فمَنْ غلبهم فقد حسب أنه غلب من يدعون إليه وهم لا يشعرون بهذا الحسبان، فافهمه.
والحُكم مستعمل في معنى الظن والاعتقاد تهكمًا بهم بأنهم نصبوا أنفسهم منصب الذي يحكم فيطاع و{ما يحكمون} موصول وصلته، أي ساء الحكم الذي يحكمونه.
وهذه الآية وإن كانت واردة في شأن المشركين المؤذين للمؤمنين فهي تشير إلى تحذير المسلمين من مشابهتهم في اقتراف السيئات استخفافًا بوعيد الله عليها لأنهم في ذلك يأخذون بشيء من مشابهة حسبان الانفلات، وإن كان المؤمن لا يظن ذلك ولكنه ينزل منزلة من يظنه لإعراضه عن الوعيد حين يقترف السيئة. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)}.
قد قدمنا الكلام على الحروف المقطعة مستوفى في أول سورة هود، والاستفهام في قوله: {أحسب الناس} للإنكار.
والمعنى: أن الناس لا يتركون دون فتنة: أي ابتلاء واختبار، لأجل قولهم: آمنًا، بل إذا قالوا فتنوا: أي امتحنوا واختبروا بأنواع الابتلاء، حتى يتبين بذلك الابتلاء الصادق في قوله آمنًا في غير الصادق.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبينًا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء وَزُلْزِلُوا حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُوا مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} [البقرة: 214] وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} [آل عمران: 142] وقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] وقوله تعالى: {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب} [آل عمران: 179] الآية. وقوله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [آل عمران: 154] الآية. وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة: 16] إلى غير ذلك من الآيات، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله هنا: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُوا} [العنكبوت: 3] الآية. وقد بينت السنة الثابتة أن هذا الابتلاء المذكور في هذه الآية يبتلى به المؤمنون على قدر ما عندهم من الإيمان، كقوله صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل». اهـ.